(7) سر المخزومية السارقة
2
تحكي القصة عن امراة شريفة من بني مخزوم وهم سادات قريش في الجاهلية سرقت بعد فتح مكة فأمر الرسول بإقامة الحد عليها وهو قطع يدها فتوسط بني مخزوم عند اسامة بن زيد ربيب الرسول فكلمه للعفو عنها فغضب الرسول وقال لاسامة اتشفع في حد من حدود الله ؟ .. ثم قام يخطب في الناس قائلا: أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
3
ولشهرة القصة تجدها اساسية في كتب الحديث الستة عند اهل السنة وتذكر في الكتاب الواحد في اكثر من موضع باكثر من اسناد فالبخاري ذكرها في 6 مواضع ومسلم 3 مواضع وابو داوود في 4 مواضع وابن ماجه مرتين والترمذي مرة اما النسائي فكان له عناية واهتمام لافت بهذه القصة فقد اخرج لها 18 راوية استقصى فيه القصة كاملة من جميع اوجهها واختلافاتها ووكذلك احمد بن حنبل ذكرها 10 مرات تبعا لاختلاف السند اما باقي المسانيد والسنن بعد احمد والبخاري فحدث ولا حرج فلا يكاد يخلو منها مصنف حديثي في هذه الفترة فنحن نتكلم عن رواية تكاد تصل لحد التواتر المعنوي
4
والقصة على شهرتها وانتشارها وقبول المحدثين والفقهاء لها الا ان في مضمونها ورواياتها اشكالات كثيرة حيرت شراح الاحاديث الفقهاء
اول اشكالية هي سبب الحد وهو انها كانت تستعير حليا (ذهب) فانكرته وهو المسألة المعروفة فقهيا بجحد العارية "اي انكار ما تم استعارته على سبيل الارجاع" والسبب هو ان مذهب جمهور الفقهاء ان جحد العارية ليس فيه قطع لعدم وجود حرز لكون المسروق اصلا في عهدة السارق فلجأ اغلب الشراح لحل هذا الاشكال هو اعتبار ان الحد لم يكن بسبب جحد العارية وانما بسبب السرقة المباشرة من بيت الرسول خصوصا ان بعض الروايات الاخرى تقول انها سرقت قطيفة (ثياب فاخرة) من بيت الرسول
وبغض النظر عن السبب تظل الاشكالية الثانية وهي كيف لشريفة ان تسرق متاع سواء حلي او قطيفة وهو ليس طبع الاشراف والاثرياء فما يحوجها لهذا وخصوصا ان الروايات تقول ان اهلها عرضوا على الرسول 40 اوقية من ذهب حتى يعفو عنها فكيف بمن يملك اهلها اربعون اوقية من ذهب ان تسرق اشياء منزلية بسيطة
اما الاشكالية الثالثة فهي كيف يقام الحد بعد فتح مكة مباشرة كما تذكر الروايات ومازل الناس حديثوا عهد بالاسلام لم يتعلموا احكامه بعد
اما الاشكالية الاهم والاخطر هي كيف لا يعفو الرسول عن سرقة بيته في اشياء بسيطة بعد فتح مكة مع امرأة حديثة عهد باسلام وقد عفا فيما هو اكثر من ذلك وهو الدم والثأر مثلما فعل مع هند بنت عتبة .. بل ويرفض الوساطات ويصر على اقامة الحد بصورة تبدو قاسية وتتنافى مع الوضع السائد بعد فتح مكة وهو العفو والتصالح ونسيان الماضي ويتنافي مع المبدا العام في الحدود الذي اقره الرسول وهو درء الحدود بالشبهات
وهناك اشكاليات اخرى في القصة مثل عدم معرفة السيدة بطلة الواقعة واختلاف المؤرخين في تعيينها واختلاف الروايات في تحديد سبب الحد والشخص الذي تشفع للرسول وان كان الاشهر انه اسامة ابن زيد
5
حينما نتحدث عن عن انتشار القصة في الكتب الستة فنحن نتكلم عن المرحلة الثانية في التدوين وهي التي كانت في القرن الثالث الهجري .. فما هي درجة انتشارها عند بداية التدوين؟؟
هنا المفاجأة اذا رجعنا للخلف في المرحلة الأولى للتدوين في منتصف القرن الثاني الهجري واهمها كتاب الموطأ للامام مالك لنبحث عن هذه القصة ستجد ان الامام مالك في باب السرقة ذكر 15 رواية تحوي قصصا مختلفة للسرقة في عصر الرسول والصحابة ولم يذكر قصة المخزومية وكذلك في المدونة برواية اصحاب مالك وكذلك كتب اصحاب ابي حنيفة المعاصرين لمالك وهم ابو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن ونفس الشئ في كتب السيرة المبكرة الواقدي وابن هشام
فنحن امام قصة صمتت عنها المصادر المبكرة في المرحلة الاولى من التدوين ثم ظهرت وانتشرت فجاة في المرحلة الثانية بشكل كثيف ..
ويضاف لهذا ايضا ان المرحلة الاولى من التدوين شهدت نشوء المذاهب الفقهية الاساسية التي اجمعت على عدم الحد في في جحود العارية بعكس القصة .. ومنها يفهم لماذا خالف مذهب احمد في جحد العارية واوجب فيه الحد ولذلك لكون مذهب احمد متأخر عن باقي المذاهب في القرن الثالث في وقت انتشار القصة
وهو ما يدفعنا للسؤال: اذا كانت القصة غير موجود في مصنفات القرن الثاني ثم ظهرت وانتشرت بشكل كثيف في مصنفات القرن الثالث فمتى تحديدا بدأت هذه القصة؟؟
6
بالبحث وجد ان اول ذكر للقصة كان عند الامام الشافعي في كتاب الأم وكان مقتضبا بدون تصريح بالاسماء ما نصه : (وقطع امرأة لها شرف فكلم فيها فقال: «لو سرقت فلانة لامرأة شريفة لقطعت يدها) ويلاحظ في الرواية ان الشافعي لم يحدد هوية المراة المقطوعة يدها واكتفي بذكر انها امرأة لها شرف وتحرج من ذكر اسم فاطمة استبدله بفلانة وهو تصرف لافت من الشافعي ، وكذلك وجدت القصة مقتضبة في مصنف عبد الرزاق الصنعاني
والشافعي والصنعاني توفيا في اوائل القرن الثالث ومتاخرين بطبقة عن ابي حنيفة ومالك اي ان القصة بدأت في الظهور في الربع الاخير من القرن الثاني .. فعن اي زمن نتكلم ؟ .. انه زمن هارون الرشيد
7
تكلمنا سابقا عن نجاح الثورة الهاشمية ضد الامويين واستيلاء ال العباس على السلطة وكيف ثار ضدهم العلويين بقيادة محمد بن عبد الله النفس الزكية .. وقد دارت مراسلات بين المنصور والنفس الزكية وكان اكثر ما يلفت النظر هو لمز النفس الزكية لنسب الخليفة لمنصور العباسي حيث ان النفس الزكية كان شريفا من جهة الاب هاشمي ومن جهة الام اسدي ونسبه كله من قريش وليس في سلسلة نسبة اي جارية او أعجمي في حين ان المنصور كانت امه جارية (لاحظ!!) غير ان المعركة انتهت بانتصار المنصور وقتل النفس الزكية استقرار الملك للمنصور وعهد من بعده لابنه الخليفة المهدي
8
كان لعبد الله والد النفس الزكية زوجة اخرى من سادات قريش من بني مخزوم اسمها عاتكة بنت عبد الملك المخزومية انجبت له ابنين هما سليمان وادريس يعني اخوة غير اشقاء للنفس الزكية .. وكانت عاتكة امرأة قوية شجاعة ولها مواقف تذكرها كتب التاريخ مع المنصور في واقعة مقتل النفس الزكية وزوجها
9
بعد احداث مقتل النفس الزكية وفشل ثورة العلويين الاولى ب 23 سنة يموت الخليفة المهدي وكان له ابنان من جارية تدعى الخيزران بنت عطاء "لاحظ" وهما موسى الهادي وهارون الرشيد فيتولى موسى الهادى الخلافة ويتولى هارون الرشيد ولاية العهد فيدور صراع خفي بين الهادي والرشيد على السلطة بسبب تنامي اخبار الى الرشيد عن رغبة الهادي في تنحيته وتولية ابنه ولاية العهد
10
تصل اخبار الصراع الى مكة معقل العلويين اخوة النفس الزكية فيجتمعوا ويقرروا الثورة مجددا فينضم ادريس وسليمان اخوة النفس ازكية وابناء عاتكة المخزومية لاخوتهم وابناء عمومتهم العلويين فتصل الاخبار لبغداد فيقرر الهادي تسيير جيش الى مكة وتحدث معركة تعرف تاريخيا بموقعة "فخ" فيها يتم سحق العلويين ويقتل منهم الكثير ومنهم سليمان اما ادريس فينجو من المعركة ويهرب الى بلاد المغرب
11
بعد المعركة ببضعة شهور يموت موسى الهادي فجأة في ظروف غامضة ويتولى هارون الرشيد الحكم وفي نفس الوقت يصل ادريس الى المغرب ويستطيع جمع الاتباع والانصار والهاربين من بطش العباسيين هناك وينجح في تاسيس دويلة علوية على حدود الدولة العباسية عرفت باسم الدولة الادريسية
12
ورغم استقرار الحكم لهارون الرشيد الا ان وجود دويلة لادريس على حدوده كان يشكل تهديدا له بسبب ما ترتب على موقعه فخ من اثر سئ جهة العباسيين بعد مقتل هذا العدد الكبير من العلويين وازدياد التعاطف الشعبي الشديد معهم مع ما يثار بين العوام عن تسلط الخيزران والدة هارون الرشيد وعن دورها في قتل موسى الهادي والتمكين للرشيد وكونها هي الحاكم الفعلي للدولة من خلف الستار..
13
وكان من اكثر ما يرجح كفة ادريس عن الرشيد في التأييد الشعبي هو مقارنة النسب بين الرشيد وادريس .. فادريس شريف يجمع نسبه بين سادات قريش بني هاشم وبني مخزوم ولكونه من ذريه فاطمة اخص خصوص بني هاشم.. في حين ان الرشيد امه جارية
اما السبب التاني فهو ما حل باهل ادريس من مآسي وقتل اباه وجميع اخوته وابناء عمومته من احفاد فاطمة .. وومع وجود دولة لادريس على الحدود تحظي بتعاطف شعبي داخلي كان ادريس يشكل خطرا فعليا على هارون الرشيد
14
من هذا السياق يمكن تفهم الظهور المفاجئ في زمن هارون الرشيد لقصة السارقة المخزومية وانتشارها بسياقها القاسي ورمزيتها في عدم اعتبار النسب امام قانون الدولة من اصرار النبي لاقامة الحد عليها دون اعتبار لشرفها ورفض قبول اي وساطة مع الوعيد لفاطمة بحدوث مثل ذلك لها لو سرقت دون اعتبار لنسبها وما تحمله من رسائل بين تبرير لما حدث في فخ وتهديد لما قد يحدث
تعليقات
إرسال تعليق