(9) سر طلاق المكره

(9) سر طلاق المكره

1
تعتبر ثورة النفس الزكية اخطر ثورة واجهت العباسيين في بداية دولتهم واول صدام حقيقي بين ابناء العمومة آل العباس وآل علي بعد نجاح الثورة ضد الامويين ووثوب العباسيين على السلطة حيث اعلن النفس الزكية نفسه خليفة وادعى انه المهدي وارسل للمنصور والولاة يطالبهم بالبيعة

2
كانت منطقة نفوذ النفس الزكية هي الحجاز وتحديدا المدينة وكانت سلطة العباسيين على المدينة شكلية بينما النفوذ على الأرض كان لانصار النفس الزكية ومن هنا يظهر مأزق الامام مالك فقيه المدينة بين السلطتين (الشعبية والسياسية) ولذلك كان للامام مالك عدة اراء فتاوى فقهية ومرويات حديثية تعبر عن هذه الحالة وقد تكلمنا في المقالة السابقة عن احد تجلياتها وهي مسألة القنوت سرا

3
وهنا نتكلم عن المسألة الاهم عند مالك والتي بسببها حدثت له المحنة وتعرض للسجن والتعذيب مؤقتا وهي فتواه في يمين المستكره وتختلف الرواية في تفاصيل محنة مالك وسبب استدعاؤه وجلده من قبل والي المنصور على المدينة .. فمنها ان الناس جاؤوه يستفتونه في بيعة النفس الزكية ، فقال لهم: بايعوه ، فقالوا له: انما بايعنا ابا جعفر ، فقال لهم: انما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين .. وتأتي روايات اخرى انه لم يصرح علانية ببيعة النفس الزكية وانما اطلق فتوى بان طلاق المكره لا يقع فوشا به البعض لدى والي المدينة بانه انما يقصد ان يخلع الناس بيعة ابي جعفر لانهم بايعوه مكرهين

4
اما الرواية الاكثر مصداقية من جهة التحقيق فهي رواية الواقدي المؤرخ بتفاصيلها لان الواقدي عاصر مالك وكان مقربا من العباسيين ما يتيح له الاطلاع على خلفيات الاحداث
يقول الواقدي: لما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه (يعني الوشاية بمالك) وكثروا عليه عنده، وقالوا: لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره: أنه لا يجوز عنده فغضب جعفر، فدعا بمالك، فاحتج عليه بما رُفع إليه عنه، فأمر بتجريده، وضربه بالسياط.
فالواقدي يذكر ان الناس وشوا لجعفر والي المدينة بان مالك لا يرى بيعة بني العباس والسبب حديث في مسألة طلاق المكره يرويه عن ثابت بن الاحنف .. مما يعني ان الاشكال ليس في اصل مسالة طلاق المكره وانما في متن الرواية التي استدل بها على طلاق المكره .. فما هي تلك الرواية؟؟

5
الرواية التي كانت سبب غضب الوالي مذكورة في بعض نسخ الموطأ حيث يرويها مالك عن ثابت بن الاحنف وكان عبدا عند عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو ابن شقيق عمر بن الخطاب .. حيث يقول ثابت انه تزوج جارية كانت لعبد الرحمن بن الخطاب فلما علم عبد الله بن عبد الرحمن استدعاه فذهب اليه فوجده قد جهز سياطا وسلاسل من حديد وعبيد يقفون ينتظرون الاشاره فقال عبد الله لثابت : طلقها ولا فعلت بك كذا وكذا .. فطلقها ثم ذهب لابن عمه عبد الله بن عمر بن الخطاب فحكى له ما حدث معه فقال له هذا ليس بطلاق وانها لم تحرم عليك .. فلم يطمئن لقول عبد الله فذهب للخليفة وكان عبد الله بن الزبير فحكم بما حكم به ابن عمر وأمر بعقاب عبد الله بن عبد الرحمن وان يرد المرأة لثابت
ومن هذه الرواية اخذ مالك الحكم بعدم وقوع طلاق المكره .. فهل كان في الرواية ما يثير غضب العباسيين لهذه الدرجة لجلد مالك رغم علو شأنه .. الاجابة نعم

6
الرواية تحمل اسقاطات وشفرات فيها دعوة للناس للثورة على المنصور وبيعة ابن عمه النفس الزكية وعدم الاعتداد ببيعتهم للمنصور لانهم بايعوه مكرهين تحت تهديد السياط .. ورموز القصة كالاتي
- ابناء العمومة عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وعبد الله بن عمر ابن الخطاب .. وهي رمز للعلاقة بين العلويين والعباسيين فهم ابناء عمومة
- العلاقة بين ثابت وعبد الله بن عبد الرحمن بن زيد هي علاقة سيد وعبد وهي نفس علاقة بني العباس بالناس حاكم ومحكوم فعبد الله بن زيد يرمز للمنصور وسياطه وسلاسله وعبيده في القصة يرمزون لاداوت سلطته في البطش بالناس
- ابن العم الظالم عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد يكره عبده ثابت على تطليق زوجته .. وهي ترمز للمنصور عندما اكره الناس على بيعته والزوجه هنا ترمز للامامة
- ابن العم العادل التقي الورع عبد الله بن عمر يدعو ثابت لعدم الاعتداد بطلاقه وعدم طاعه سيده لانه اكرهه .. وابن عمر هنا يرمز للنفس الزكية يدعو الناس لخلع المنصور لانهم بايعوه بالامامة مكرهين
- الحاكم الاعظم ابن الزبير ينتصر لابن عمر ضد ابن زيد ويأمر بعقاب ابن زيد ..وابن الزبير هنا يرمز للرسول .. اي ان الرسول عهد بالحق لآل علي وفيها بشاره بعودة العدل ووعيد بهزيمة وعقاب ال العباس لظلمهم
فملخص القصة اثنان ابناء عمومة احدهما ظالم غصب زوجة عبده واكرهه على طلاقها فحكم ابن العم العادل بظلم ابن عمه ودعا العبد المظلوم بعدم طاعه سيد والثورة لاسترداد زوجته .. فلما احتكموا للمرجعية العليا (الخليفة) حكم بما حكم به ابن العم العادل ورد الزوجة للعبد وعاقب السيد الظالم

8
وبسبب هذه الرواية وارتباط قصة طلاق المكره بالمغزى السياسي لها حكم مذهب ابو حنيفة واغلب فقهاء العراق المذهب الرسمي للعباسيين بوقوع طلاق المكره وعدم الاعتداد بدعوى الاكراه في حين استمر العمل لدى اهل المدينة المتمثل في مذهب مالك بعدم وقوع طلاق المكره

9
ورغم علو اسناد رواية ثابت لا نجدها في كتب الاحاديث المعروفة الصحيح والسنن والمسانيد وذلك بسبب الاسقاطات حول قصة ثابت سبب جلد مالك .. بل اننا لا نجدها حتى في اغلب روايات الموطأ الكثيرة حيث لم نجدها الا في روايتين للموطأ
الاولى: هي الرواية الاندلسية وهي رواية يحيى الليثي
والثانية : الرواية المدنية: وهي رواية ابو مصعب الزهري
بينما اختفت في باقي روايات الموطأ العراقية والشامية والمصرية